تقرير

البكالوريا.. كيف تحَولت “الثانوية العامة” لحقل تجارب؟

تستعد وزارة التربية والتعليم المصرية لتطبيق نظام “البكالوريا” كنموذج تعليمي بديل واختياري لنظام الثانوية العامة التقليدي، بداية من العام الدراسي المقبل .

وبينما يرى المؤيدون للنظام الجديد أنه خطوة نحو تعليم يعتمد على الفهم والتحليل بدلًا من الحفظ والتلقين،

مع وعود بمرونة في التقييم وتعدد في المسارات الأكاديمية، فضلًا عن تعزيز فرص الطلاب في الالتحاق بكليات مرموقة.

يحذر رافضون من أن النظام الجديد قد يتحول إلى عبء إضافي على أولياء الأمور، بسبب ارتفاع التكاليف، وغموض آليات التقييم،

ومحدودية المسارات الجامعية المتاحة لكل طالب، ما يعمق الطبقية ويخصخص العملية التعليمية ويجعلها بمثابة حقل تجارب.

بين طموح التحديث ومخاوف التطبيق، تقف آلاف الأسر المصرية أمام خيار مصيري: هل تختار لأبنائها تجربة جديدة غير مضمونة النتائج؟

أم تتمسك بالنظام القديم بكل ما فيه من تحديات مألوفة؟

في هذا التحقيق، نستعرض شهادات أولياء الأمور وتحليلات الخبراء لمزايا وعيوب “البكالوريا”.

الطبقية التعليمية

ترى الدكتورة بثينة عبد الرؤوف، الخبيرة التربوية، أن نظام البكالوريا سيؤدي إلى تعميق الطبقية التعليمية وتكريس الفروق الاجتماعية بين طلاب المرحلة الثانوية.

أضافت بأن “هذا النظام يُعد أحد أشكال خصخصة التعليم، ليصبح التعليم لمن يدفع أكثر وللمقتدرين فقط.”

أوضحت عبد الرؤوف: “البكالوريا كنظام تعليمي يعتمد على فكرة المرونة في دخول الامتحانات، ويشبه إلى حد كبير نظام الثانوية الإنجليزي (British)،

ونظام التحسين القديم الذي كان مطبقًا في عهد وزير التربية والتعليم الأسبق حسين كامل بهاء الدين،

حيث يستطيع الطالب إعادة الامتحان لتحسين درجاته حتى لو كانت جيدة، ولكن بمقابل مادي يصل إلى 2000 جنيه للمادة الواحدة.”

وأضافت: “نعلم جميعًا كيف يفكر معظم أولياء الأمور، ورغبتهم الشديدة في حصول أبنائهم على الدرجات النهائية في كل المواد ليلتحقوا بكليات الطب والهندسة.

ومن ثم سيُجبر الأهالي الطلاب على التحسين أكثر من مرة ودفع المقابل المادي للمواد،

ولا أحد يستطيع لومهم على تكرار الامتحان لأنهم سيدافعون عن موقفهم بدفع الأموال، ومن ثم هم أحرار في الإعادة أكثر من مرة.”

وأكدت الخبيرة التربوية أن نظام البكالوريا سينتج طلابًا يسعى أولياء أمورهم للوصول للدرجة النهائية،

بغض النظر عن مستوى الطالب الحقيقي وقدراته، و”التعليم سيتحول لعملية دفع أموال في إعادة الامتحانات فقط”.

وأشارت إلى أن “المجتمع غير مهيأ للتعامل مع هذا النظام، متوقعة أن تظهر نتائجه السلبية فيما بعد في وقائع مثل الرسوب الجماعي لطلاب كلية طب جامعة أسيوط وغيرها من الجامعات،

لعدم ملائمة الكليات مع قدرات الطلاب”، فالهدف هو “الحصول على الدرجة النهائية دون قدرات حقيقية،

ودخول الطب والهندسة من أجل تحقيق أحلام الآباء فقط.”

عدم جاهزية

لفتت عبد الرؤوف إلى عدم جاهزية منظومة التعليم العالي لاستقبال خريجي نظام البكالوريا،

قائلة: “هو نظام يعتمد على فكرة المسارات وليس التشعيب القديم مثل علمي وأدبي،

ولكن أتاح للطالب أربعة مسارات، يدرس في كل مسار المواد المتعلقة مثلًا بالالتحاق بكلية الهندسة، وكذلك الطب.

و يبقى السؤال: ماذا لو حصل الطالب على درجة متدنية ولم يستطع الالتحاق بكلية علوم؟

هل لدينا تدرج في الكليات مثلا من كلية علوم وصولًا للمعاهد العليا المتخصصة في الكيمياء على سبيل المثال؟

كيف نحدد 4 مسارات ولا يوجد مقابل لها من الكليات سوى كلية أو اثنتين فقط في كل مسار؟!”

كما أشارت إلى عدم وجود أعداد كافية لأعضاء هيئة التدريس بالمدارس في التخصصات الجديدة بالمسارات المستحدثة،

متسائلة: “هل لديك معلمين متخصصين في تدريس مواد إدارة الأعمال والتجارة في مدارسنا المصرية؟”

وتابعت: “ذات التساؤل ينطبق على غياب مدرس لمادة الدين المسيحي، من سيقوم بتدريس مادة التربية الدينية المسيحية في المدارس، بعد أن اعتبرها النظام الجديد مادة نجاح ورسوب ولكن غير مضافة للمجموع؟!”

واختتمت حديثها بتأكيدها على عدم تفاؤلها بنجاح نظام البكالوريا، فالنظام “على الورق رائع، ولكن تطبيقه على أرض الواقع صعب”.

الوزارة مستعدة

من جانبها ترى نيفين شحاتة، مدير تحرير الأهرام ومسؤول ملف التعليم، أن نجاح نظام البكالوريا المصرية يعتمد بالأساس على تدريب المعلمين، واستعداد وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني لتوفير بيئة تعليمية قادرة على تفعيل النظام الجديد بكفاءة وفقًا لمعايير الجودة.

أضافت شحاتة : “لا شك أن الوزارة تضع مصلحة الطالب المصري في مقدمة أولوياتها،

وتسعى بكل السبل لتقديم تعليم عالي الجودة ومتكامل يواكب تطورات العصر ويلبي احتياجات سوق العمل المحلي والدولي.”

وأشارت إلى أن الوزارة أعلنت عن إطلاق حملة توعوية شاملة حول نظام شهادة “البكالوريا المصرية” قريبًا؛

لتوضيح كافة التفاصيل لأولياء أمور الطلاب المقبلين على الصف الأول الثانوي العام الدراسي المقبل.

مميزات النظام الجديد

أكدت شحاتة أن الوزارة شددت على أهمية التنسيق على مستوى المدارس لنشر الوعي الكامل بمميزات النظام الجديد،

وأن الطالب سيكون له حرية الاختيار بين الالتحاق بنظام شهادة “البكالوريا المصرية” أو الاستمرار في نظام الثانوية العامة الحالي التقليدي،

بما يتناسب مع ميوله التعليمية وقدراته واحتياجاته المستقبلية، لأن الهدف هو إتاحة مسارات متعددة لتعليم عالي الجودة لجميع الطلاب.

وسردت شحاتة مميزات نظام البكالوريا قائلة: “تحسين المجموع، حيث يحق للطالب تحسين درجاته واختيار الأعلى، المسارات التعليمية ،

إذ صممت منظومة البكالوريا بحيث يكون الفرق بين مسار وآخر في مادتين اثنتين فقط،

لذلك يستطيع الطالب إن وجد أن المسار الذي اختاره غير ملائم أن يغيره فورًا بتغيير المادتين التخصصيتين في الصف الثالث الثانوي.”

 وأوضحت أنه يتم “محاسبة الطالب على درجاته الأعلى في الصفين الثاني والثالث،

بينما يحسب مجموع الطالب من 600 درجة بواقع 100 لكل مادة من المواد الست المضافة للمجموع.”

تابعت شحاتة توضيح مميزات النظام: “إنه يعتمد على 4 مسارات وهي: الطب وعلوم الحياة، الأعمال، الهندسة وعلوم الحاسب، الآداب والفنون.

ويتيح للطلاب اختيار مواد تخصصهم، وأصبحت مادة اللغة الأجنبية الثانية مادة تخصص في مسار الآداب والفنون،

يختار الطالب بينها وبين علم النفس.

كما يدرس الطالب في البكالوريا المصرية اللغة العربية في الصف الثاني الثانوي ولا يدرسها في الثالث الثانوي.”

وبخصوص الجدل حول تدريس التربية الدينية، أوضحت شحاتة: “إنها مادة خارج المجموع في الصف الثالث الثانوي بحد نجاح 70%،

وسيتم محاسبة الطالب في هذا النظام على درجاته الأعلى في الصفين الثاني والثالث،

مع وجود فرصتين للامتحان في مايو ويوليو بالصف الثاني الثانوي، وفي يونيو وأغسطس بالصف الثالث الثانوي.”

وأكدت  أن الوزارة قادرة على تطبيق نظام البكالوريا، مشيرة إلى تأكيد وزير التربية والتعليم والتعليم الفني، محمد عبد اللطيف، أن الوزارة “على أتم استعداد لتطبيق النظام الجديد،

من خلال تحديث البنية التكنولوجية للمدارس، وتدريب وتأهيل المعلمين على آليات التقييم الجديدة.”

تباين في القبول والرفض

تتباين آراء أولياء الأمور حول نظام البكالوريا. تقول مروة فتحي، ولية أمر الطالبة نور عبد المنعم (15 عامًا)، إنها لم تجبر ابنتها على اختيار أي نظام،

واقتنعت باختيار ابنتها لنظام البكالوريا بعد قراءتها لمواصفاته والنقاش معها.

“ابنتي فضلت البكالوريا لعدة أسباب، أولها أن الثانوية العامة ستكون على عامين وليس عامًا واحدًا كما في النظام القديم،

ومن ثم هذا يقلل من الضغط والتوتر الواقع عليها وعلى الأسرة بالتبعية حال التركيز على عام دراسي واحد فقط.”

وأضافت : “ثاني الأسباب تخفيض عدد المواد الدراسية لأربع مواد في العام الواحد عكس النظام القديم،

وهو ميزة تراها ابنتي في التركيز والمذاكرة على مواد قليلة واستيعابها بطريقة أفضل بدلًا من دراسة كل المواد في عام واحد.

أما السبب الأخير فهو إتاحة نظام البكالوريا لفكرة التحسين، وابنتي تراها فرصة جيدة لتحسين المجموع لو حدث وحصلت على درجات ضعيفة في إحدى المواد

.” وصفت فتحي فكرة التحسين بالجيدة، مشيرة إلى رغبة ابنتها في الالتحاق بكلية الألسن:

“ابنتي تحب اللغات وخاصة الكورية، وتتعلم بشكل ذاتي، وتطمح للوصول للكلية المطلوبة ولكن بدون ضغط.”

نظام المسارات

بينما ترفض ميساء فتحي، والدة الطفل أدهم أحمد، التحاقه بنظام البكالوريا قائلة: “لأنه نظام قائم على المسارات وكل مسار يربط الطالب بكلية أو كليتين على الأكثر،

وهذا يشكل مخاطرة، ماذا لو حصل ابني على مجموع ضعيف أو أقل من الكليتين، أين سيذهب؟!

عكس نظام الثانوية العامة يفتح مجالات أوسع سواء في القسم العلمي أو الأدبي.”

أشارت ميساء فتحي أيضًا لمخاوفها من فكرة التحسين، قائلة : “الأرقام المعلنة متضاربة عن قيمة المقابل المادي لتحسين كل مادة،

البعض يقول 500 وتصل إلى 2000 جنيهًا،

وهذا عبء مادي كبير على أي أسرة. ماذا لو فشلت أسرة في توفير هذا المبلغ المالي لإعادة ابنها للامتحانات للمواد الحاصل فيها على درجات ضعيفة، سيكون مصيره الرسوب فقط؟!” .

وتتوقع  فتحي صعوبة امتحانات نظام البكالوريا قائلة : “بصراحة أخشى تجربة ابني لنظام جديد،

معالمه غير واضحة حتى الآن، لا يوجد ضمانات عادلة أو مناسبة للطلاب وقدراتهم في الامتحانات.”

وتابعت: “فكرة استمرار الضغط على عامين في نظام البكالوريا صعبة على الطالب والأسرة،

لكن اعتدنا في نظام الثانوية العامة القديم على عام دراسي واحد سواء من حيث التوتر أو المصاريف المطلوبة للدروس الخصوصية.”

واختتمت قائلة: “أعتقد أن نظام البكالوريا ليس هدفه تطوير التعليم،

بقدر ما يهدف للحصول على مصروفات أكثر من أولياء الأمور عن فكرة كالتحسين وإعادة دخول الامتحانات،

ولكن في النهاية ليس هناك ضمانة للطالب للالتحاق بالكلية التي يرغبها في ظل محدودية الكليات المتاحة المرتبطة بالمسارات الأربعة فقط.”

سوق العمل

أكد الدكتور أيمن غنيم، الخبير الاقتصادي والقانوني، أن تطبيق نظام البكالوريا المصري الجديد يُعد خطوة استراتيجية تعكس تحولًا هيكليًا في فلسفة التعليم،

من النمط المعرفي النظري إلى التعليم المرتبط بواقع السوق والمهارات الإنتاجية.

أضاف: “هذا التوجه يتسق مع ما أوصت به منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في تقريرها عن إصلاح التعليم لعام 2022،

والذي أشار إلى أن الدول التي أعادت تصميم مناهجها حول المهارات العملية والتعلم القائم على المشروعات شهدت نموًا في معدل تشغيل الخريجين بنسبة تجاوزت 20% خلال خمس سنوات فقط.”

وتابع غنيم أن النظام المصري الجديد – الذي يعتمد على التقييم التراكمي متعدد المصادر ويركز على محاور التفكير النقدي، ريادة الأعمال، واللغات –

“يواكب نماذج التعليم المتقدم، كما في الدول المتقدمة في هذا المضمار،

مثل كندا وسنغافورة وفنلندا، حيث تُربط مسارات التعليم بقطاعات حيوية مثل التكنولوجيا الخضراء، الهندسة التطبيقية، والتصميم الصناعي.”

وأوضح أن “بيانات البنك الدولي تشير إلى أن كل نقطة تحسن في جودة التعليم التقني والتطبيقي،

تؤدي إلى زيادة بنسبة 1.5% في متوسط نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الدول النامية.”

وأضاف غنيم أن مصر تسعى، من خلال هذا النظام، إلى إعادة تعريف العلاقة بين المدرسة وسوق العمل،

وهو ما يتماشى مع رؤية مصر 2030، التي وضعت أحد أهدافها خفض معدلات البطالة وزيادة فرص العمل النوعية.

و”النظام الجديد يُعد أداة لتحقيق هذا الهدف، لا سيما مع التوسع في الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات الدولية،

مثل مبادرة ‘مدارس التكنولوجيا التطبيقية’ بالتعاون مع شركات كبرى في مجالات الاتصالات والطاقة والصناعة.”

المصدر: مجلة روز اليوسف المصرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى