كتب

خريف البترودولار.. العالم  يبحث عن نظام مالي جديد

البحث عن نهاية لهيمنة الدولار

انتهت اتفاقية البترودولار بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في 8 يونيو 2024، تلك الاتفاقية التي اعتبرت القاعدة الرئيسية  التي شكلت النظام المالي العالمي خلال  الـ50 عاما الماضية، بعد انهيار اتفاق بريتون وودز بداية السبيعينات من القرن الماضي .

على الرغم من أن الولايات المتحدة والسعودية، على وشك إبرام اتفاق أمني  تلتزم فيه واشنطن بالدفاع عن المملكة، بيد أنهما  لم  يتطرقا  لأية محادثات بشأن الاتفاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وعن مستقبل  البترودولار الذي أصبح مجهولا، ليرى البعض أن خريف البترودولار قد حل، فيما رأى البعض الآخر أن الاتفاق انتهى بالفعل .

ماهية  اتفاقية البترودولار؟

أٌبرمت اتفاقية البترودولار في  8 يونيو  عام 1974، وبموجب الاتفاقية وافقت الولايات المتحدة على شراء  النفط السعودي وتوفير المساعدة العسكرية  والأسلحة للمملكة، مقابل قيام السعودية باستثمار عوائد النفط في شراء سندات الخزانة الأمريكية .

وعلى الرغم من أن تلك الاتفاقية  ليس لها وجود في السجلات الأمريكية أو السعودية إلا أن العالم  اكتشف هذا الاتفاق  من خلال  ممارسته على أرض الواقع ، فقد  التزمت  المملكة ودول مجموعة الأوبك ببيع صادرات النفط  بالدولار الأمريكي  حصرا ، مما حافظ على  هيمنة الدولار على سوق  تجارة السلع   العالمية.

ماهي بدائل البترودولار؟

تسعى روسيا والصين  لتشكيل عالم متعدد الأقطاب  على الصعيد السياسي،  كما تريد البلدان  نظام مالي عالمي  جديد تعتمد  فيه التبادلات التجارية والاستثمارات البينية  بين الدول على العملات المحلية بعيدا عن هيمنة الدولار، الذي يعطي الولايات المتحدة القدرة على الفتك بأي اقتصاد عن طريق العقوبات، وتلك الرؤية  تتبناها مجموعة بريكس التي تضم كلا من روسيا والصين والهند  وجنوب إفريقيا والبرازيل ومصر والسعودية  والإمارات  وإيران وإثيوبيا.

صورة تعبيرية عن الاتفاق بين السعودية والولايات المتحدة

لذلك فالبديل الأول لقاعدة  البترو دولار هي اعتماد التبادل التجاري بين الدول على العملات المحلية، وهو الاتجاه الذي بدأته العديد من الدول لاسيما أعضاء تحالف بريكس، لكن  يظل هذا البديل يواجه مشاكل  عديدة بسبب اختلال الميزان التجاري بين الأعضاء.

أما البديل الثاني فيتمثل في إمكانية أن يحتل  اليوان الصيني، مكانة الدولار في حركة التجارة والمعاملات المالية العالمية، وبالفعل  تزداد حصة العملة الصينية” الرينمنبي” في المدفوعات الدولية ، إذ تضاعفت خلال  الخمس سنوات الأخيرة من 2.15% إلى 4.5%  في الوقت الراهن .

وتمتلك العملة الصينية القدرة  على الاستحواذ على حصة  غالبة  في سوق التداولات العالمية، نظرا لكون الصين هي أكبر دولة تجارية في العالم ، وبلغت صادرات الصين إلى العالم في 2023، نحو 3.7 تريليون دولار، فيما بلغت صادرات الولايات المتحدة نحو 3 تريليون دولار.

انحسار حصة الدولار

ومع قيام بلدان مجموعة البريكس وبعض الدول التي تعاني من انهيار قيمة عملتها أمام الدولار، بما في ذلك الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية ، بزيادة استخدام العملات المحلية للمدفوعات عبر الحدود، فهناك تصور متزايد بأن أهمية الدولار في مجال التمويل الدولي آخذة في الانحسار، لا سيما في أسواق النفط العالمية.

 وبالفعل تراجعت حصة الدولار في احتياطات النقد الأجنبي لدى الدول  لتصل إلى 60% هذا العام بعد أن كانت نحو 79% ، فيما بلغ نسبة 80%من تمويل التجارة .

ما قبل البترودولار

كانت الولايات المتحدة تعاني من ارتفاع معدلات التضخم والعجز الكبير في الحساب الجاري نتيجة حربها في فيتنام، الأمر الذي فرض ضغوطاً هبوطية على الدولار وهدد بسحب احتياطيات الذهب الأميركية.

 ونتيجة لتلك المشاكل التي وقعت في عام 1971، أنهت الولايات المتحدة قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، والذي كان بمثابة العمود الفقري لنظام بريتون وودز النقدي الدولي لأسعار الصرف الثابتة.

بدأت العملات الرئيسية بالتعويم ضد بعضها البعض في عام 1973،  ثم جاءت صدمة النفط في ذلك الخريف، عندما خفضت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إنتاج النفط وحظرت شحنات النفط إلى الولايات المتحدة أثناء حرب 6 أكتوبر.

وعلى خلفية عدم اليقين الاقتصادي والسياسي الكبير، ومع اقتراب جلسات الاستماع في فضيحة ووترغيت من نهايتها، شرعت إدارة نيكسون في مهمة دبلوماسية من شأنها تعزيز الشراكة الاقتصادية مع المملكة العربية السعودية التي كانت أساسية لتجارة الطاقة العالمية.

ولتشجيع الرياض على استخدام الدولار كوسيلة لتبادل مبيعاتها النفطية (وبالتالي إعادة توجيه هذه الدولارات إلى أسواق سندات الخزانة للمساعدة في تمويل العجز المالي الأمريكي)، وعدت واشنطن بتزويد المملكة العربية السعودية بالمعدات العسكرية وحماية أمنها القومي.

وعلى الرغم من الاضطرابات وعدم الاستقرار في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، أظهر الاتفاق أنها تحتفظ بالقدرة على وضع الأجندة الدولية.

وبالإضافة إلى الحفاظ على استقرار الطلب على الدولار، عززت الاتفاقية استخدامه في تجارة النفط والسلع الأساسية، مع خلق مصدر ثابت للطلب على سندات الخزانة الأمريكية.

وساعد ذلك في تعزيز مكانة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية والتمويلية والأكثر استخداما في المعاملات الرئيسية في العالم.

الوضع العالمي الجديد

لكن بعد مرور خمسين عامًا سريعًا، تغير الوضع العالمي الذي كانت تتمتع به الولايات المتحدة ذات يوم ضعيفًا نسبيًا،  وانخفضت حصتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 40% في عام 1960 إلى 25% .

ولقد تجاوز اقتصاد الصين اقتصاد الولايات المتحدة من حيث تعادل القوة الشرائية ويتعين عليها الآن أن تتنافس على النفوذ مع بكين التي تزداد حزما، في حين تواجه ضغوطا حتى من قبل حلفاء مثل أوروبا وأماكن أخرى يريدون أن يصبحوا أكثر استقلالا عن واشنطن في المسائل المالية والسياسة الخارجية.

وعلى وجه التحديد، حاولت العديد من الدول تطوير ترتيبات دفع بديلة عبر الحدود للدولار لتقليل تعرضها لاستخدام واشنطن المتزايد للعقوبات الاقتصادية والمالية. وفي الوقت نفسه، أصبحت الولايات المتحدة أقل اعتماداً على النفط السعودي.

وبفضل ثورة الصخر الزيتي، أصبحت الولايات المتحدة الآن أكبر منتج للنفط في العالم ومصدر صافي له، وعلى الرغم من ذلك لا تزال تستورد النفط من المملكة العربية السعودية ولكن بكميات أقل بكثير.

وعلى النقيض من ذلك، أصبحت الصين أكبر عميل للنفط في المملكة العربية السعودية، حيث تمثل أكثر من 20% من صادرات المملكة النفطية.

وأقامت بكين علاقات وثيقة قائمة على التجارة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث تضاءل نفوذ الولايات المتحدة، ووقعت  اتفاقية في نوفمبر الماضي مع المملكة للتبادل بالعملات الوطنية، فيما وقعا البلدان على اتفاق شراكة استراتيجية كاملة في ديسمبر عام 2022  .

إن رغبة المملكة العربية السعودية في تنويع العملات المستخدمة في بيع نفطها يتماشى مع استراتيجية أكبر تتطلب من البلاد زيادة علاقاتها الدولية خارج الولايات المتحدة وأوروبا.

إن استعداد المملكة للانضمام إلى نادي البريكس للدول الناشئة والشراكة مع الصين ودول أخرى في مشروع mBridge لاستكشاف استخدام العملات الرقمية لبنوكها المركزية (CBDCs) للمدفوعات عبر الحدود لا ينبغي أن يكون مفاجئًا.

خطوة رمزية

معضلة الدولار العالمية إن اهتمام المملكة العربية السعودية بتنويع العملة يمثل خطوة صغيرة ولكنها رمزية على الطريق نحو التخلص من الدولار.

وتستخدم البلدان على نحو متزايد عملاتها الخاصة في المعاملات التجارية والاستثمارية عبر الحدود،  ووضعت الترتيبات اللازمة للقيام بذلك بالكامل خارج نطاق تأثير أي قوة كبرى.

وتشمل هذه الخطوط، خطوط مبادلة العملة المتفق عليها بين البنوك المركزية المشاركة في تلك الاتفاقات وربط أنظمة الدفع والتسوية الوطنية.

أخيرا في المستقبل المنظور، سوف تظل هيمنة الدولار قائمة،  لكن التحول التدريجي للمشهد المالي العالمي ربما يكون جاريا الآن، مما يفسح المجال لعالم حيث يمكن استخدام المزيد من العملات المحلية في المعاملات الدولية.

في مثل هذا العالم، سيظل الدولار بارزا ولكن من دون نفوذه الضخم، الذي تكمله عملات مثل الرنمينبي الصيني، واليورو، والين الياباني بطريقة تتناسب مع البصمة الدولية لاقتصاداتها.

وفي هذا السياق، تظل الكيفية  التي تتعامل بها المملكة العربية السعودية مع البترودولار نذيرًا مهمًا للمستقبل المالي القادم، حيث كان إنشائها قبل خمسين عامًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى