تقرير

“كليات القمة”: الوهم الذي زرعه الأهل في عقولنا


أصبحت “كليات القمة” هاجسًا يؤرق طلاب الثانوية العامة، ويطاردهم في كل خطوة خلال رحلتهم التعليمية.

هذا المفهوم، الذي غالبًا ما يكون وهمًا زُرع في عقولهم من قبل الأهل والمجتمع، يضع عليهم ضغوطًا نفسية هائلة قد لا يطيقونها.

فالسعي المحموم نحو هذه الكليات، بغض النظر عن ميول الطالب وقدراته الحقيقية، ي

خلق بيئة من التوتر والقلق المستمر، ويدفع البعض إلى حافة الانهيار، بل قد يصل الأمر -في بعض الحالات المأساوية- إلى التفكير في الانتحار.

إنه سباق لا يتوقف، يُنسي الطلاب أن النجاح الحقيقي يكمن في إيجاد الشغف وتطوير القدرات في المجالات التي تناسبهم،

وليس بالضرورة في مسارات محددة فرضها المجتمع.

لذا، نبحث في هذا التحقيق حول الوهم الكبير الذي نسميه “كليات القمة”، والذي جعلنا نُصاب بالعنصرية المهنية دون أن ندري.

المكان المناسب

قالت سلمى سعيد ، 25 عاما ،”عندما أخفقت في الالتحاق بكلية الطب، ظننت أن الحياة توقفت،

وأن مستقبلي ضاع، وشعرت أنني حُكِم عليّ بالسجن مدى الحياة.

لكنني أدركت لاحقًا أن القمة لم تكن في ‘كليات القمة’ ولكن حينما يتم وضعك في المكان المناسب لكَ.”

لكن الحقيقة أن النجاح الحقيقي لا يشترط الالتحاق بكليات بعينها، بل في قدرة الشخص على اكتشاف ذاته وتحقيق أهدافه في المجالات التي تتناسب مع شغفه وقدراته.

تستطرد سلمى، التي تخرجت من كلية التجارة شعبة إدارة الأعمال، حديثها عن مشاعر الإحباط التي كانت تسيطر عليها بعد أن فشلت في الالتحاق بكلية قمة،

طالما حلمت بها عائلتها قائلة: “كان المجتمع ينظر لي نظرة استنكار،

علاوة على نظرات الخيبة في عيون والديّ، شعرت بأنني لن أكون شيئًا إذا لم أدخل ‘كلية قمة’.”

أضافت:” هذه المشاعر أدت لتدهور حالتها النفسية حتى أصابتني بالاكتئاب وأقدمت على الانتحار.

كنت ألجأ للكذب أحيانًا على من حولي عند سؤالي عن المجموع خوفًا من نظرة الشفقة

قائلة: “كنت أقول للجميع إنني حصلت على 95% بينما كنت قد حصلت على 83% فقط.

واستطردت : “قررت أن أحصل على العلاج. وبدأت أتعلم من التجارب التي مررت بها وأركز على دراستي،

واكتشاف شغفي. درست في مجال إدارة الأعمال،

واكتشفت أن النجاح ليس في الشهادات الجامعية فقط، بل في الإصرار على التقدم والعمل الجاد.

قررت أن أواصل طريقي وشاركت في الأنشطة الطلابية، وفزت في مسابقات، وعملت على مشاريع صغيرة حتى بدأت شركتي الخاصة.”

تؤكد سلمى أن دراستها في كلية التجارة كانت البداية لتحقيق طموحاتها وتطوير مهاراتها في الإدارة والمالية

قائلة: “دراستي في كلية التجارة كانت الأساس الذي بنيت عليه نجاحي.

تعلمت كيف أتمكن من إدارة مشروعاتي، وكيف أتميز في أي مسابقة تتعلق بالإدارة.”

قالت  سلمى: “الآن، وبعد مرور الوقت، أشعر بالامتنان لعدم دخولي كلية الطب.

لأنني كنت سأدخلها لإرضاء أهلي أكثر من تحقيق حلمي الشخصي.

فكرة ‘الدرجة الاجتماعية الأعلى’ كانت دافعًا في البداية، لكنني اكتشفت أن الرضا الحقيقي كان يكمن في أهداف أخرى.

من الإعلام إلى التسويق الإلكتروني

بينما كان لسلمى حلم في كلية الطب، كان لمحمد شهيد، البالغ من العمر 26 عامًا، خريج كلية الإعلام جامعة الأزهر،

حلم بدأ بالالتحاق بإحدى كليات القمة، حيث رافقه حلم العمل في الإذاعة. لكن القدر كان له رأي آخر.

“بعد أن تخرجت من كلية الإعلام، بدأت أبحث عن فرصة للعمل في مجالي الذي حلمت طوال سنوات دراستي أن أبدع فيه وأحقق ما كنت أطمح إليه.

لكن الطريق لم يكن كما توقعت، فقد كان العمل به صعبًا،

نظرًا لاستغلال أصحاب العمل للمتخرجين  وتشغيلهم بدون مقابل في وقت لا يقبل فيه وضعي الاقتصادي العمل بلا أجر. وهنا، بدأ حلم ‘كلية القمة’ يتبدد تدريجيًا.”

قال:”على الرغم من أنني عملت بالتسويق الإلكتروني، إلا أن تعليمي الأكاديمي  كان له دورا كبيرا في تطوير مهاراتي وفهمي لسوق العمل.

لكن في النهاية، كانت الخبرة العملية هي التي حددت مسار حياتي المهنية.”

وأضاف: “ما كنت أظنه حلمًا في الإعلام تحول إلى واقع آخر. واليوم،

أرى أن الالتحاق بأي كلية يجب أن يكون من أجل هدف معين، لا يقتصر الأمر على كليات القمة.

نحن من نصنع نهاية قصتنا، ولا يجب أن تحدد درجات الثانوية  مصيرنا.”

خدعة كليات القمة

في حديثه عن تأثير التعليم الأكاديمي على حياة الطلاب، يرى الدكتور رحاب الدين الهواري، أستاذ المحتوى الرقمي بكلية الإعلام جامعة الأزهر، أن مفهوم “كليات القمة” لم يعد ذا قيمة كبيرة في تحديد مسار النجاح،

وأن الأهم هو معرفة الشخص لما يريد وكيف يحقق أهدافه.

يقول الدكتور رحاب: “الأصل في خدعة كليات القمة هم الأهل، وخاصة في الريف، إذ كان يُنظر إلى كليات القمة على أنها بوابة النجاح.”

ويوضح الدكتور رحاب أن هذه النظرة القديمة وغير الواقعية كانت الدافع لإنشاء الجامعات الخاصة،

التي نشأت نتيجة ضغط الأهالي على أبنائهم للحصول على شهادات القمة.

لكن الواقع الذي نراه في الجامعات اليوم هو أن العديد من الخريجين من كليات القمة لا يعملون في مجالاتهم الأكاديمية،

بينما نجد آخرين يحققون نجاحات ضخمة في مجالات مختلفة.

وعلى الرغم من ذلك، يشير الدكتور رحاب إلى أن رؤية الطلاب حول “كليات القمة” بدأت تتغير بشكل تدريجي. “اليوم،

نجد أن العديد من الطلاب أصبحوا أكثر وعيًا بما يسعون لتحقيقه في حياتهم المهنية،

ويركزون على التخصصات التي تلبي احتياجات السوق. وأبسط مثال على ذلك هو ابني،

الذي قرر الالتحاق بقسم البيزنس بناءً على ما سيتطلبه سوق العمل، بدلًا من أن يتبع تقاليد كليات القمة.”

كما يتابع الدكتور رحاب حديثه عن أحد الطلاب الذي رفض الالتحاق بكلية الطب في جامعة خاصة،

قائلًا: “رفض أحد طلابي العرض الذي قدمه له والده للالتحاق بكلية الطب الخاصة،

قائلًا إنه يفضل أن يستثمر أمواله في مشروع خاص به.

واليوم، هذا الطالب يمتلك مصنعًا ناجحًا ويواصل دراسته، مثبتًا أن النجاح لا يرتبط بمكان الكلية.”

ويؤكد أن مفهوم “كليات القمة” بدأ ينحسر تدريجيًا في المدن الكبرى، إلا أنه لا يزال له تأثير أكبر في الريف”.

نجاح لا يتوقف

في إطار حديثه عن واقع سوق العمل في مصر، يؤكد المهندس أحمد عبد العزيز، البالغ من العمر 31 عامًا،

والذي يعمل في مجال رقمنة المحال والمصانع ، أن التعليم الأكاديمي يُعد جزءًا من معادلة النجاح ولكن ليس كل شيء.

“التعليم الأكاديمي يزود الفرد بالمعرفة الأساسية التي تساعده في التفكير والتحليل،

ولكنه ليس العامل الوحيد الذي يضمن التفوق في الحياة المهنية.

فالعديد من الأشخاص الذين درسوا في كليات الهندسة أو التجارة نجحوا في مجالات بعيدة تمامًا عن تخصصاتهم الدراسية.

النجاح، في النهاية، يعود إلى الشخص نفسه، والبيئة الداعمة، وتوافر المقومات اللازمة لتحقيق الهدف.”

ويستكمل المهندس أحمد، والذي تخرج من إحدى “كليات القمة” بدوره،

حديثه قائلًا: “فرغم تخرجي من كلية الهندسة إلا أن سبب تفوقي في التجارة هو التحاقي بسوق العمل منذ المرحلة الثانوية،

إذ أصبحت على دراية كاملة بأسرار السوق،

وتمكنت من الاستفادة من الفرص المختلفة التي ظهرت لي عبر العمل في عدة جهات وامتلاك شركات خاصة.

تعلمت من كل تجربة أن النجاح لا يتحقق بدون سعي وجهد مستمر، سواء من خلال التعليم الأكاديمي أو من خلال العمل الميداني.”

ويشدد المهندس أحمد على أن التعليم الأكاديمي وحده لا يحدد النجاح،

قائلًا: “سوق العمل يبحث عن الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على حل المشكلات، لا من يتهربون منها.

يرفض الخبير في سوق العمل تصنيف “كليات القمة” قائلًا: “ليس هناك ما يسمى بكليات القمة.

في مصر، يلتحق بكلية الحقوق من يحصل على درجات متدنية في الثانوية، بينما تعتبر تلك الكلية من أرقى الكليات في أمريكا.

يختتم المهندس أحمد حديثه بتأكيده على أن الفرص في سوق العمل لم تعد حكرًا على خريجي “كليات القمة”:

“في الوقت الحالي، أصبح الذكاء الاجتماعي والتعلم المستمر هو العامل الأهم.

التأثيرات النفسية

وفي سياق الحديث عن تأثير “كليات القمة” على الطلاب،

يؤكد الدكتور إبراهيم خطاب، أخصائي الصحة النفسية والخبير في المهارات الحياتية،

أن مفهوم “كليات القمة” في مصر هو شكل من أشكال الدلالة على وجود مكانة اجتماعية أعلى،

وأن كل من بلغ تلك المكانة ناجح ومن دون ذلك فاشل، فإما أن تكون في كلية قمة أو تصبح لا شيء.

وغالبًا يكون الأثر النفسي الناتج عن ثقافة “كليات القمة” هو القلق والتوتر المزمن سواء قبل أو بعد الامتحانات أو مع ظهور النتائج،

لأن الطلبة ممن يكون لديهم هدف الالتحاق بإحدى كليات القمة يصابون بشكل من أشكال التوتر والقلق، علاوة على تدني تقدير الذات والشعور بالدونية إذا لم يدخلوا لواحدة منها،

إلى جانب حدوث احتراق دراسي، وهو ينتج عن أن أغلب الطلبة ممن يلتحقون بكليات القمة لا تكون تلك رغبتهم الحقيقية في الالتحاق،

ولكن يُبنى ذلك على رغبة أو ضغط حولهم سواء من الأهل أو المجتمع.

ففي دراسة تم تطبيقها عام 2021 على طلاب جامعة القاهرة وجدوا أن حوالي 64% من طلاب الطب

يعانون من الاحتراق النفسي وتزيد النسبة عند الطلاب ممن ليس لديهم دافع ذاتي حقيقي لدخول كلية الطب.

الضغط النفسي

ويوضح الدكتور خطاب أنه نتيجة لهذا النظام تصبح لدينا 3 أشكال رئيسة لهذا الضغط:

المشكلة الأولى هي عدم إكمال الطريق، إذ أن  أغلب الطلاب ممن نجحوا في الالتحاق بكليات القمة

لا يكملون الطريق لأنهم يتخيلون أن الدراسة مع دخول الكلية تقل، لكن ما يحدث هو مضاعفة العمل.

المشكلة الثانية تتمثل في تأجيل الأنشطة والهوايات،

حيث يتم تأجيل الأنشطة و الهوايات بدعوى الانتهاء من الثانوية العامة ،

لتمر السنوات ويجد الطالب نفسه لا يملك أي مهارات وتبدأ الثقة في النفس تتناقص تدريجيًا .

النقطة الثالثة، تتعلق بربط المجموع بالنجاح، فالتركيز على أن المجموع هو مؤشر النجاح  الوحيد.

ويؤكد أن النتائج النفسية الناجمة عن هذا الضغط  متنوعة،

حيث يمكن أن تتسبب في اضطرابات القلق والاكتئاب.

“أثبتت الدراسات أن اضطراب القلق يزداد بشكل كبير بين الطلاب أثناء الامتحانات.

كما أن فقدان المعنى في حياة الطلاب أمر شائع؛ إذ يفعلون كل شيء فقط لإرضاء الآخرين،

مما يؤدي إلى ما يسمى بالفراغ الوجودي.”

ويضيف الدكتور خطاب، أن من الأعراض النفسية الأخرى التي قد تظهر نتيجة للضغط الاجتماعي:

اضطرابات الأكل والنوم. “التوتر الناتج عن هذه الضغوط ينعكس على الجهاز الهضمي والأرق،

ويأخذ شكلين: إما الإفراط في تناول الطعام أو الامتناع عنه تمامًا، بالإضافة إلى مشاكل في النوم مثل الأرق التام.”

اضطرابات الهوية

أما الأهم من ذلك، فيشير الدكتور خطاب إلى اضطراب الهوية،

الذي يعاني منه الطلاب الذين يسعون دومًا لإرضاء الآخرين على حساب أنفسهم.

“الطلاب الذين يتعرضون لهذا الضغط الاجتماعي يبدؤون في فقدان جزء من شخصيتهم وهويتهم،

حيث يصبح هدفهم الوحيد هو القبول الاجتماعي، مما يجعلهم يتنازلون عن أشياء كانوا يحبونها في سبيل تحقيق رضا الآخرين.”

في النهاية، يحذر الدكتور خطاب من التأثيرات النفسية التي قد تنجم عن الضغط المرتبط بكليات القمة،

مؤكدًا أن النجاح لا ينبغي أن يُقاس بالكلية التي يلتحق بها الطالب، بل بما يحققه من نجاحات شخصية ومهنية وعاطفية.

المصدر: مجلة روز اليوسف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى