“البجعة السوداء”: رحلة في عالم الباليه المظلم والبحث عن الكمال

“البجعة السوداء ” أو (Black Swan ، فيلم دراما سيريالي ملىء بالإثارة والغموض، أُنتج عام 2010 ، ويعتبر تحفة سينمائية في عالم الدراما والتشويق.
القصة عبارة عن رحلة عميقة داخل عقل راقصة باليه محترفة تبحث عن الكمال، تكافح للحفاظ على صحتها العقلية والبدنية،
عقب حصولها على الدور الرئيسي في عرض “بحيرة البجع” الأيقوني.
الفيلم من إخراج دارين أرونوفسكي، المعروف بأفلام الرعب النفسي، وبطولة ناتالي بورتمان وميلا كونيس.
وفي السطور القادمة نتناول ملخص أحداث فيلم البجعة السوداء وكواليس إنتاجه وتحليل قصته.
كواليس إنتاج وتحديات شخصية البجعة السوداء
خلال عملية التصوير، حاول أرونوفسكي إثارة التنافس بين البطلتين لإظهار التناقض بين شخصياتهما في الفيلم، لكنه فشل بسبب صداقتهما الوثيقة التي لا تزال قائمة حتى الآن.
الفيلم من تأليف مارك هيمان، أندريس هاينز، وجون ماكلولين، وقد استغرق السيناريو عشر سنوات ليجد طريقه إلى الإنتاج، حتى تبناه أرونوفسكي.
تولى مهمة التصوير المدير المبدع ماثيو ليبيتيك، بينما أبدع كلينت مانسيل في الموسيقى التصويرية،
حيث قدم توزيعًا جديدًا وإعادة تلحين لمقطوعة “بحيرة البجع” لتشايكوفسكي بشكل مشوش ومحير، بما يخدم الأجواء النفسية للفيلم.
تضحيات ناتالي بورتمان من أجل “نينا“
لعبت النجمة ناتالي بورتمان دور “نينا” ببراعة مذهلة، وقد بذلت جهودًا خارقة من أجل هذا الدور.
فقد تدربت على رقص الباليه لمدة عام كامل، ودفعت تكاليف هذه التدريبات على نفقتها الخاصة،
بالإضافة إلى خسارتها تسعة كيلوغرامات من وزنها.
واجهت بورتمان تحديًا آخر يتعلق بصوتها الطفولي في بدايات مسيرتها الفنية،
لذا خضعت لتدريبات مكثفة لتغيير نبرة صوتها وجعلها أعمق.
المثير أن أرونوفسكي طلب منها استعادة نبرة صوتها الطفولية القديمة لتناسب الدور،
مما تسبب لها بمعاناة شديدة، واصفة التجربة بأنها “أشبه بتعلم المشي من جديد”.
تجسيدًا لتفانيها، أدت بورتمان 80% من مشاهد الرقص في الفيلم بنفسها.
وخلال التصوير، التقت بزوجها المستقبلي، مصمم الرقصات الخاص بالفيلم.
على الرغم من المشاكل الإنتاجية والميزانية المحدودة،
التي دفعت فريق العمل في بعض الأحيان إلى الاستغناء عن بعض التجهيزات (مثل مقطورة نوم الممثلين عندما كسر ضلع بورتمان)،
إلا أن تفانيها في العمل حصدت ثماره.
حصدت ناتالي بورتمان جميع جوائز التمثيل التي ترشحت لها عن هذا الفيلم،
مما يؤكد النجاح الساحق الذي حققه الفيلم لها ولمخرجه، بمشاركة ميلا كونيس في دور “ليلي”.
ملخص أحداث فيلم ” black swan” البجعة السوداء
صراع البجعة البيضاء والسوداء: قصة نينا وليلي
تبدأ أحداث فيلم البجعة السوداء بحلم باليه يمزج بين الظلام والنور،
حيث نتعرف على نينا ووالدتها وحلم نينا بأن تصبح راقصة باليه رئيسية في عرض “بحيرة البجع”.
في صباح اليوم التالي تذهب نينا إلى قاعة التدريب متفائلة، وهناك يظهر مدير العرض،
شخصية ذات حضور طاغي، ليختار البطلة التي ستؤدي دوري البجعة البيضاء “White Swan” والبجعة السوداء “Black Swan”.
البجعة البيضاء تمثل البراءة والطفولة، بينما البجعة السوداء تجسد الشر والمكر والشيطانية.
تتدرب نينا لتجسد الشخصيتين، وتفشل في البداية، لكن يتم اختيارها في النهاية .
المشكلة تتمثل في أن نينا راقصة محترفة، لكنها تسيطر بشدة على كل حركة واتجاه في رقصها.
بينما الدور يتطلب السيطرة وفي نفس الوقت القدرة على فقدان السيطرة عندما يستدعي الأمر ذلك.
تعاني نينا من عدم قدرتها على إغواء الجمهور بحركاتها في دور البجعة السوداء.
تتزامن هذه الصراعات مع دخول “ليلي” إلى حياتها، وهي شخصية عكس نينا تمامًا.
ليلي لا تملك سوى فقدان السيطرة في حياتها الشخصية، فهي تشرب وتدخن وتتأخر عن مواعيدها دائمًا،
لكنها تتقن دور البجعة السوداء في الرقص بشكل مثالي.
الهلوسة والتحول الجسدي
لدينا هنا شخصيتان: إحداهما تتقن دور البجعة البيضاء، والأخرى تتقن دور البجعة السوداء.
مدير العرض يريد شخصًا واحدًا يؤدي الدورين معًا.
تبدأ نينا في قضاء وقت أطول مع ليلي، وقبل ليلة العرض، تبدأ الهلوسات بالتسلل إلى حياتها.
تتغير وجوه الناس أمامها، وتتحرك اللوحات على الجدران، وتزداد الأصوات في رأسها.
يتبنى الفيلم أسلوب “رعب الجسد” (Body Horror)، وهو نوع معروف به مخرجون مثل ديفيد كروننبرغ،
ويعتمد على التشوهات الجسدية والتحولات التي قد تطرأ على جسم الإنسان نتيجة حالة نفسية معينة.
نرى نينا تعاني من تشوهات جسدية مرعبة، وكأن جسدها يتحول تدريجيًا إلى شيء آخر.
تصادم الواقع والوهم
تأتي ساعة العرض، وتؤدي نينا دور البجعة البيضاء ببراعة.
وعندما تدخل لتستعد لدور البجعة السوداء، تجد ليلي بالداخل.
يتشاجران، وفي لحظة غضب، تطعن نينا ليلي بقطعة زجاجية وتقتلها.
بعد ذلك، تتحول نينا تمامًا إلى البجعة السوداء جسديًا ومعنويًا، وتؤدي الدور بشكل رائع.
عندما تعود لتغيير ملابسها لدور البجعة البيضاء مرة أخرى، نجدها تنزف.
نكتشف أنها طعنت نفسها، ولم تكن ليلي موجودة أصلًا، حيث تأتي ليلي لتهنئها على أدائها، مما يكشف أن ما حدث كان مجرد هلوسة.
تخرج نينا لتؤدي “دور حياتها” وهي تنزف، وتصل إلى قمة مسيرتها الفنية.
تؤدي القفزة المطلوبة من قبل المخرج، وتسقط على المسرح. ينجح العرض بشكل باهر، ونرى دائرة الدم تتسع.
الكاميرا تنتقل إلى وجهة نظر نينا، ونسمع هتافات الجمهور باسمها، بينما يتجمع الناس حولها بعد نجاحها.
لا نعرف ما إذا كانت قد نجت أم لا، لكن المخرج يمنحنا بصيصًا من الأمل بنهاية الفيلم على إضاءة تملأ الشاشة.
التجربة السينمائية
حركة الكاميرا: تعتبر حركة الكاميرا في “black swan” مع مدير التصوير ماثيو ليبيتيك مدهشة.
فهي تحاكي حركة الباليه، سريعة وخفيفة، ولا تنتظر أو تتباطأ، مما يناسب طبيعة الفيلم.
صُممت لإثارة الخوف وعدم الاستقرار، وتجعلنا نشعر دائمًا بأن هناك شيئًا غريبًا يحدث أو كارثة وشيكة.
الراوي غير الموثوق به (Unreliable Narrator):
الفيلم مثال حي على هذا المبدأ.
الراوي هو نينا، ونرى الأحداث من وجهة نظرها المضطربة.
هذا يعني أن ما نراه ليس بالضرورة الحقيقة المطلقة، بل رؤيتها المشوشة للعالم.
فنينا ترى نفسها في شخصيات أخرى، وترى نسخًا منها تحاول إيذاءها، وكل ذلك نتيجة لاضطرابها النفسي.
الرعب النفسي ورعب الجسد:
يجمع الفيلم بين “الرعب النفسي” (Psychological Horror) و”رعب الجسد” (Body Horror)،
مما يخلق تجربة غنية جدًا يفضلها أرونوفسكي.
نرى مشاهد بشعة لتحول نينا، أو ما يسمى “الميتامورفوسيس” (Metamorphosis)، حيث يتحول الكائن جسديًا.
يأتي الرعب النفسي من تحولها من البجعة البيضاء (حياتها البريئة) إلى شخص عنيف وشرير ومدبر.
أما رعب الجسد فيتجسد في الجروح التي تظهر على جسمها، سواء في ساقيها أو كتفيها أو ظهرها، والتي هي رمز للحالة النفسية والجسدية التي تمر بها.
انعكاسات نفسية واجتماعية
الفيلم يعكس أيضًا حالة إيذاء النفس أو الإجهاد الشديد الذي يجعل الجسم ينهار.
كما يصور حالة الانضباط الشديد في الأكل التي يعاني منها راقصو الباليه.
في هذا العالم التنافسي، من يفوت القطار يخسر مكانه.
علاقة نينا بوالدتها:
تظهر الأم في الفيلم كشخصية فاتها قطار الباليه بسبب الحمل، وتعيش على نجاح ابنتها.
في بعض الأحيان، تبدو وكأنها تحاول تدمير مستقبل نينا، كأن تشتري لها كعكة كبيرة بعد قبولها في الدور، في محاولة لإيذائها.
لكن يمكن تفسير ذلك أيضًا على أنها تحاول إبعاد ابنتها عن هذا الهوس بطريقتها الخاصة،
لأن نينا لن تقبل بغير البطولة.
يبقى الحكم على جانب الأم متروكًا للمشاهد.
الرمزية في الطعام والملابس والمرايا:
الوجبة التي كانت تتناولها نينا طوال الفيلم (جريب فروت وبيضة) هي نفسها الوجبة التي كانت تأكلها سارة جولدفارب في فيلم “مرثية حلم” (Requiem for a Dream) عندما كانت تحاول إنقاص وزنها، في إشارة ذكية من المخرج.
الحالة التي تجعل نينا تهرش في جلدها وتؤذي جسدها تعرف باسم “اضطراب خدش الجلد القهري” (Dermatillomania Compulsive)، وهي حالة يميل فيها الشخص إلى الهرش أو العض في أجزاء معينة من جسمه عند التوتر الشديد، مما يؤدي إلى إصابات وتشويهات.
عزلة نينا واضحة طوال الفيلم، فهي دائمًا وحدها، تفصلها حواجز عن الآخرين.
ملابس نينا تتغير تدريجيًا من الأبيض والوردي إلى الرمادي، ثم إلى الأسود في النهاية، مما يرمز لتحولها من شخصية بريئة إلى شخصية فقدت السيطرة تمامًا على كل شيء.
بينما ملابس ليلي كانت سوداء طوال الفيلم، مما يعكس شخصيتها المظلمة.
كل مشاهد الفيلم تقريبًا تحتوي على مرآة، ما عدا المشهد الأخير.
المرايا تعكس عادة صورة مختلفة عما يحدث في الحقيقة، مما يرمز للصراع الداخلي لنينا وشخصيتها المحبوسة.
اختفاء المرايا في المشهد الأخير يدل على انتصار الجانب المظلم وموت البجعة البيضاء.
تحليل فيلم “البجعة السوداء “.. ثمن الكمال
يرمز الفيلم بوضوح إلى انهيار نينا في حالة من الفصام الارتيابي (Schizophrenic Paranoia). فهي تبدأ في رؤية نفسها كشخصيات أخرى أو ترى أشخاصًا غير موجودين، وتشعر بالاضطهاد والمراقبة.
هذا نتيجة للضغط النفسي والعزلة والتنافس الشديد وهوسها بالكمال.
يرى أرونوفسكي أن هذا هو “ثمن الكمال”.
السعي وراء الكمال يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات نفسية وعقلية، وهذا ما نراه كثيرًا في حياة المشاهير الذين لم يستطيعوا تحمل ضغط القمة.
“بلاك سوان” هو فيلم عن الكمال والسعي إليه والثمن الباهظ الذي ندفعه لتحقيقه.
إنه فيلم عن رغبات الآباء لأبنائهم ورغبة الأبناء في التحرر من هذه الخطط.
يكشف الفيلم عن القبح الكامن وراء كل شيء، حتى في فن جميل ورقيق كالباليه، حيث الكواليس أبشع بكثير مما نتخيل، بين الضغط النفسي الهائل والمجهود البدني الشديد والتنافسية العالية.
الفيلم يوضح أن الضغط يولد الانفجار، والانفجار يولد الانهيار العقلي.
سواء عاشت نينا في النهاية أو ماتت، فإن البراءة داخلها قد ماتت،
والبجعة البيضاء خسرت أمام البجعة السوداء ولن تعود.
فإذا كان النجاح كبيرًا، فالثمن المدفوع لأجله دائمًا أكبر.
نجاح باهر وإشادات عالمية
على الرغم من عنف الفيلم وصعوبة بعض مشاهده، إلا أنه حقق نجاحًا باهرًا، حيث حصد 97 جائزة و280 ترشيحًا.
معظم الجوائز كانت لناتالي بورتمان عن دورها كأفضل ممثلة.
كما حصل الفيلم على جائزة معهد الفيلم الأمريكي كأفضل فيلم في العام. تقييماته عالية على مواقع مثل IMDb (8/10) وروتن توميتوز (84% من الجمهور و85% من النقاد)، مما يؤكد مكانته كواحد من أبرز أفلام العقد الماضي.