“الكتاب الأحمر”: فلسفة ماو تسي تونغ في الثورة وبناء الاشتراكية

بين دفّتي “الكتاب الأحمر”، يتجلّى صوت الثورة الصينية بصيغة حادة وواضحة، حيث تتقاطع الأيديولوجيا مع التجربة،
والحلم بالعدالة مع لهيب الكفاح.
هذا الكتاب الذي جمعته الحكومة الصينية من أقوال زعيمها ماو تسي تونغ في الفترة الممتدة بين عامي 1964 و1976، لم يكن مجرد تجميع لعبارات أو شعارات،
بل كان بمثابة “دستور ثوري” غير رسمي لكل صيني، أُجبر الملايين على اقتنائه وحفظه، بل والتمثّل به سلوكًا وفكرًا.
يُعد الكتاب مرآة لفكر ماو الذي شكّل العمود الفقري للثورة الثقافية، وهو يوثق رؤيته في قيادة الحزب،
وهندسة المجتمع، وخوض الحرب، وتشكيل الإنسان الاشتراكي الجديد.
يقدّم النصوص كأدوات نضالية، ويمنحها سلطة تفوق سلطة الكلمات، لتصبح تعاليم تُترجم إلى سياسات وممارسات.
ماو تسي تونغ: زعيم الثورة ومهندس الفكر الشيوعي الصيني
ماو تسي تونغ (1893 – 1976) هو الزعيم المؤسس لجمهورية الصين الشعبية، وأحد أبرز الرموز الشيوعية في القرن العشرين.
وُلد في قرية شاوشان بمقاطعة هونان، ونشأ في بيئة ريفية متواضعة، قبل أن يلتحق بالدراسة ويبدأ تدريجياً في تبني الفكر الماركسي اللينيني.
قاد ماو الحزب الشيوعي الصيني في صراع طويل ضد القوميين (الكومينتانغ)،
وتوج نضاله بالنجاح في عام 1949 حين أُعلنت جمهورية الصين الشعبية.
ومنذ ذلك الحين، أصبح رمزًا سياسيًا وعقائديًا، وظل حتى وفاته يمثل مرجعًا أيديولوجيًا لا يُعصى له أمر،
خاصة خلال الثورة الثقافية (1966 – 1976).
تميّز ماو بفكره الثوري الذي مزج فيه بين الماركسية التقليدية والواقع الصيني، حيث أعاد صياغة المفاهيم الشيوعية لتلائم مجتمعًا زراعيًا فلاحياً، مؤمنًا بأن الفلاحين – وليس البروليتاريا الصناعية وحدهم – هم القوة المحركة للتغيير.
وقد أحدث هذا التعديل ثورة في الفكر الماركسي العالمي.
في هذه السطور نستعرض ملخص الكتاب الأحمر، الذي يمثل الدستور الشيوعي للحزب الحاكم في الصين الشعبية.
الكتاب الأحمر: من كلمات إلى تعليمات ثورية
1. دور الحزب الشيوعي في قيادة الثورة:
من الفصل الأول حتى السابع في الكتاب الأحمر لماو تسي تونغ، يؤكد ماو أن الحزب الشيوعي الصيني هو القائد الأساسي للشعب،
وأن وجوده يجب أن يرتكز على النظرية الثورية الماركسية اللينينية.
يشدد على أن التغيير لا يأتي إلا من خلال العمل الجماهيري بين الطبقة العاملة والفلاحين،
بهدف هزيمة الإمبريالية وتحويل الصين من دولة متخلفة إلى دولة اشتراكية حديثة.
2. الصراع الطبقي والثورة الدائمة:
يرى ماو أن المجتمعات كلها مليئة بالتناقضات، وأن الصراع الطبقي هو وقود الثورة.
يدعو إلى ثورة عنيفة تطيح بالطبقات المعادية، ويؤكد أن الاشتراكية حتمية، ولكنها تتطلب وقتًا وجهدًا لبنائها.
كما يناقش تحديات بناء مجتمع اشتراكي في بلد يضم مئات الملايين من الفلاحين.
3. التناقضات الداخلية والخارجية:
في اقتباساته التالية، يتناول ماو كيفية التعامل مع التناقضات داخل المجتمع الصيني من خلال الديمقراطية والإقناع، بينما يدعو لمواجهة الأعداء الخارجيين – خصوصًا الإمبرياليين – بشجاعة وقوة.
ويصف خصوم الصين بأنهم “نمور من ورق”، أي أنهم يبدون أقوياء لكنهم ضعفاء في الحقيقة.
4. نظرية الحرب وحرب الشعب:
من الفصل الثامن إلى الحادي عشر، يشرح ماو فلسفته حول “حرب الشعب” القائمة على دعم الجماهير، ويشرح مبادئ حرب العصابات، ودور الجيش الشعبي الذي يجب أن يعمل بين الناس ويتعلم منهم.
يرى أن الجيش ليس فقط قوة قتالية، بل هو أداة لتطوير الفكر الشيوعي والدفاع عن استقلال الصين.
5. الحزب من الداخل: اللجان، النقد، والانضباط:
ينتقل ماو إلى وصف كيفية عمل الحزب من الداخل، مؤكدًا على أهمية دور لجان الحزب وضرورة أن يكون القادة بمثابة “قادة فرق جيدين”.
يدعو إلى ممارسة النقد والنقد الذاتي بشكل دائم كوسيلة لتصحيح الأخطاء وتعزيز الانضباط.
يشير إلى أن “الخط الجماهيري” يتطلب أخذ الأفكار من الناس، تحويلها إلى سياسات، ثم تنفيذها، في دورة مستمرة من التفاعل.
6. دور الجيش في العمل السياسي والتثقيفي:
يركز ماو على العمل السياسي لجيش التحرير الشعبي، ويرى أن على الجنود أن يكونوا مثقفين، ناشطين سياسيين، ومتصلين بالجماهير.
يدعو إلى إصلاحات ديمقراطية داخل الجيش تقلل من مكانة الضباط وتزيد من مشاركة الجنود في صنع القرار، لجعلهم أدوات فعالة في الثورة الاجتماعية.
7. الوطنية في خدمة النضال العالمي:
يرى ماو أن الوطنية الحقيقية تعني مواجهة الإمبريالية العالمية، ويشجع الشعوب المضطهدة على التحرر الذاتي بدلًا من انتظار المساعدات الدولية.
يصف “النمر الورقي” – في إشارة إلى القنبلة الذرية – بأنه غير قادر على قهر شعب مستعد للتضحية.
8. العمل الشيوعي اليومي: بين النظرية والممارسة:
من الفصل الثاني عشر إلى الثالث عشر، يتحول تركيز ماو إلى النظرية، فيناقش الطبيعة العالمية للتناقضات الاجتماعية، ويؤكد أن الممارسة – وليس التنظير فقط – هي الوسيلة لإعادة تشكيل الواقع. حتى أفكار كبار المفكرين يجب أن تُختبر ميدانيًا.
يشدد على ضرورة زرع القيم الشيوعية داخل الفرد، ويقارن بين الإيثار الشيوعي والليبرالية التي ينتقدها بقوة.
9. تعزيز الوحدة داخل الحزب:
يدعو ماو إلى وحدة الحزب والشعب، وتطبيق تسلسل هرمي صارم داخل الحزب.
النقد الذاتي ليس مجرد أداة شخصية بل ضرورة تنظيمية تهدف لتصحيح الأخطاء الفكرية والسلوكية.
10. الشيوعي المثالي والفن كجبهة نضال:
في ختام الكتاب، يصف ماو الشيوعي المثالي بأنه تلميذ الجماهير، ويشيد بالكوادر الثورية الذين يحملون راية التغيير.
كما يشير إلى أن الاتحاد السوفيتي، بعد ستالين، تراجع عن مبادئه، في تحذير مبطن من الانحراف عن الخط الثوري.
يمتدح الشباب ويعتبرهم الطاقة الحقيقية للمجتمع، ويطالب بإشراك النساء في القوى العاملة على قدم المساواة مع الرجال.
أما الفن، فهو بالنسبة له “جبهة سياسية”، ويجب أن يُسخَّر لخدمة الثورة، إلى جانب العلوم والتعليم.
خاتمة الكتاب الأحمر لماو تسي تونج
يمثل “الكتاب الأحمر” أكثر من مجرد سجل لأقوال الزعيم ماو، إنه خريطة فكرية لنموذج سياسي واقتصادي واجتماعي ثوري،
صاغته تجربة واقعية دامية وطويلة.
يقدم الكتاب مزيجًا من النظرية والممارسة، من الحرب والسياسة، من الفرد والجماعة، في محاولة لبناء مجتمع اشتراكي صيني مستقل ومتماسك.
رغم مرور عقود على وفاته، لا يزال أثر ماو تسي تونج وتفسيراته للماركسية محفورًا في ذاكرة الصين،
وفي صفحات هذا الكتاب الذي أصبح أحد أكثر الكتب توزيعًا في التاريخ.