سينما

“أشياء الحياة”: رحلة في ذاكرة رجل بين الحب والموت.. تحفة رومي شنايدر وكلود سوتيه

الفيلم الفرنسي Les Choses de la vie «أشياء الحياة» الصادر عام 1970، هو عمل درامي ينتمي إلى السينما الواقعية العميقة، أخرجه المخرج الفرنسي كلود سوتيه  Claude Sautet،

الذي اشتهر بقدرته على التقاط «حالة الإنسان العادي» ببراعة، من خلال علاقاته، قراراته، وخيباته.

يشارك في بطولة الفيلم  ميشيل بيكولي Michel Piccoli في دور المهندس المربك، 

والنجمة الشهيرة  رومي شنايدر  Romy Schneider في دور المرأة الشابة العشيقة.

الفيلم يستند إلى رواية بنفس الاسم للكاتب بول غيمار Paul Guimard (1967)

والتي استكشفت فكرة أن حياتنا مبنية من سلسلة من اللحظات المتهاودة — «أشياء الحياة».

وخلال هذه السطور نقدّم ملخّصاً للقصة وتحليلاً للفيلم.

الفكرة والأبطال

الفكرة المحورية للفيلم هي تسليط الضوء على الرجل الذي يعيش في قصبة الصراع الداخلي

بين التزامه تجاه الماضي (الزوجة والابن) ورغبته في الحاضر (العاشقة الشابة)، وما ينجم عن هذا الصراع من شعور بالذنب، الندم، والخيبة.

كما يعرض كيف يمكن للحظة – أو حادث – أن تجعل الإنسان يتوقف فجأة وينظر إلى كل ما بنى أو أهمل من «أشياء الحياة».

أبطال الفيلم هم:

Michel Piccoli -1 (ميشيل بيكولي)  بدور «بيير بِرار» (Pierre Bérard)، مهندس معماري في منتصف العمر،

يعيش بين التزام مهني وحياة عاطفية مضطربة.

Romy Schneider -2 ( رومي شنايدر) بدور «هيلين هالتِيغ» (Hélène Haltig)، العشيقة الشابة لبيير، التي تريد أن يبني معها مستقبلاً واضحاً.

Léa Massari -3 ( ليا ماساري ) بدور «كاثرين بِرار» (Catherine Bérard)، الزوجة السابقة/العاشقة الأولى، التي لا تزال تربطها ببيير علاقة معقدة.

 من خلال هؤلاء الشخصيات، يُقدّم الفيلم شبكة من العلاقات العاطفية التي تبدو في ظاهرها بسيطة،

لكنها تخفي داخلياً الكثير من التوتر، الصمت، والخيارات غير الحاسمة.

ملخّص القصة والأحداث

يبدأ الفيلم بصورة افتتاحية قوية: عجلة سيارة تقع في حقل، تليها سيارة تحطّمت على جانب الطريق.

ذلك الحادث هو نقطة الانطلاق التي تنقسم عندها أحداث الفيلم بين اللحظة الحاضرة –

حيث بيير ملقى على جانب الطريق بين الحياة والموت – وبين فلاشباكات متتابعة تسترجع لحظات من حياته.

بيير رجل ناجح مهنياً، لكن حياته العاطفية معقدة: هو منفصل تقريباً عن زوجته كاثرين، وله ابن يُدعى برتراند.

من جهة أخرى، يعيش علاقة غرامية مع هيلين التي تريد أن يتزوجها أو أن يعلنها بشكل نهائي.

تتصاعد التوترات بين الثلاثة حين تدفع هيلين بيير لاتخاذ قرار: هل سيبقى مع زوجته وابنه

أم يترك كل ذلك وينطلق معها نحو مستقبل جديد؟.

في لحظة مصيرية، أثناء قيادته، يصطدم بيير بشاحنة تنقل حيوانات توقفت داخل التقاطع.

الحادث خطير وينقلب بتأثيره على مسار الفيلم: فالزمن يبدو وكأنه يتوقف، وبيير، وهو مصاب،

يعايش ذكريات حياته الحقيقية: لحظات فرح، نزاعات صغيرة، قرارات مؤجلة، وصفحات من حياته لا تُعد ولا تُحصى — «أشياء الحياة».

في نهاية المطاف، تظل النتيجة مفتوحة: الرسالة التي كتبها بيير إلى هيلين (يعلن فيها رغبته بالارتباط) لا تصل إليها —

إذ أنّ كاثرين، عند تلقيها متعلّقات بيير بعد الحادث، تقرأها، ومن دون قصد تمزّقها.

وهكذا، يبقى كلّ من كاثرين وهيلين، كلّ بطريقته، مع فكرة أنّه كان يريد أن يعيش مع «إحداهن».

بهذا، يُقدّم الفيلم سرداً متقطّعاً، بين الحاضر شبه الثابت (بيير على جانب الطريق) والذكريات

التي تنساب بسرعة أكبر كلما اقترب من النهاية، في تكثيف يوحي بأنّ حياة الإنسان ما هي إلا تراكم من لحظات صغيرة وكبيرة.

تحليل فيلم أشياء الحياة

أولاً، من الناحية التقنية، يستخدم سوتيه بنية غير خطية: يبدأ بالحادث ثم يعود إلى الوراء عبر فلاشباكات،

ليجعل من الحادث نقطة مركزية في رؤيته النفسية.

 هذا الأسلوب يعكس فكرة أنّ «الأشياء» التي تشكّل حياة الإنسان لا تُرى عادة بوضوح إلا في لحظة التوقف، أو الأزمات.

ثانياً، أبعاد العلاقات: بيير يعيش بين شخصين يمثلان له خيارات مختلفة: الزوجة التي تمثّل الماضي – والاستقرار – والابن،

والعشيقة التي تمثل الحاضر والمغامرة والمستقبل المحتمل.

لكنه في العمق غير قادر على اتخاذ القرار بسهولة.

البعد العاطفي

يُظهر الفيلم كيف أن البُعد العاطفي ليس مجرد اختيار بين شخصين،

بل هو صراع داخل الذات: بين الالتزام، الوفاء، والرغبة في التغيير.

ثالثاً، عنوان الفيلم نفسه يحمل دلالة رمزية: «أشياء الحياة».

فالحياة ليست فقط الأحداث الكبرى، بل اللحظات الصغيرة – رحلة بحرية، قبلة، صمت بين الكلمات،

وعدٌ مؤجل – كلها تشكّل النسيج الذي يُدعى «حياة».

الفيلم يهيّئ لنا أن نرى هذه الأشياء من خلال عيون شخص يوشك أن يفقدها.

رابعاً، من حيث الأداء، يظهر Michel Piccoli بشكل رائع في دور بيير، فتراه بين الحزم والتردد، بين السيطرة والخوف.

شخصية هلين

 أما  رومي شنايدر Romy Schneider فهي تجلب حيوية وعاطفة إلى شخصية هيلين،

ما يجعل الصراع الشرعي بينها وبين كاثرين أكثر عمقاً وجدّية.

خامساً، في مستوى الشعور العام، يحافظ الفيلم على نبرة من الحزن الهادئ والحنين، دون أن يتحول إلى ميلودراما مفرطة.

كما أنه يقدّم نقداً ضمنياً لكيف يعيش الإنسان «متعدد الأدوار» — أب، زوج، عاشق، محترف

وقد يفقد التواصل الحقيقي مع ذاته أو مع الآخرين بسبب هذا التعدد.

أخيراً، يبقى أثر النهاية مفتوحاً: الحادث لا يُعطينا قراراً واضحاً من بيير، بل يتركنا نفكر في ما لو… في كم من «أشياء الحياة» لم نحسمها، أو لم نعشها بوعي. هذا الانفتاح هو ما يجعل الفيلم يظل في الذهن بعد انتهائه.

عمق أشياء الحياة

في المجمل، «أشياء الحياة» هو فيلمٌ بسيط في مقدمته، لكنّه عميق في بنيته. من خلال حادثة وحيدة، يقلب سوتيه مفاهيمنا عن الزمن، القرار، الحب، والحياة نفسها.

هو ليس فقط قصة رجل بين امرأتين، بل تأمّل في كيف نعيش، ولماذا نؤجل، وما هي «الأشياء» التي تستحق أن تُعاش حقاً.

يجسّد الفيلم رسالة تقول: ربما لا نعرف قيمة هذه الأشياء إلا حين تختبرها بمرارة أو ندم

فكم منا يدرك أن «أشياء الحياة» هي في النهاية ما تبقى عند توقف السيارة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى