تقرير

لماذا تكدس الصين احتياطيات الذهب ؟

في تحول استراتيجي يتابعه العالم عن كثب، كثفت الصين خلال السنوات القليلة الماضية من مشترياتها للذهب بشكل لافت، بالتزامن مع تقليصها الكبير لحيازتها من السندات الأمريكية.

هذه الخطوات المزدوجة من قبل ثاني أكبر اقتصاد في العالم تثير تساؤلات دولية حول الأهداف الكامنة وراء هذا التحول في استراتيجية إدارة احتياطياتها الأجنبية الضخمة.

سباق صيني نحو الذهب

شهدت احتياطيات الصين من الذهب ارتفاعًا مطردًا منذ بداية القرن الحادي والعشرين، لكن وتيرة هذا النمو تسارعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.

ففي عام 2019، كانت الصين تحوز على 1,950 طنًا من الذهب. وبحلول عام 2022، ارتفع هذا الرقم إلى 2,010 أطنان.

أما أحدث البيانات المتاحة لشهر أكتوبر 2024، فتشير إلى أن احتياطيات الذهب الصينية قد تجاوزت 2,280 طنًا.

وعلى الرغم من أن هذا الرقم لا يضع الصين في المرتبة الأولى عالميًا من حيث حيازة الذهب، إلا أنه يضعها ضمن أكبر حائزي المعدن الأصفر، متفوقة على دول مثل سويسرا واليابان والعديد من الدول الأوروبية.

الأهم من حجم الحيازة هو أن الصين برزت كواحدة من أكبر مشتري الذهب في العالم خلال السنوات الماضية.

أكبر مشترٍ للذهب

فعلى سبيل المثال، في عام 2023، كانت الصين أكبر مشترٍ للذهب منفردة، حيث اشترت أكثر من 224.88 طنًا.

وفي عام 2022، حلت في المرتبة الثانية بشراء 62.21 طنًا. أما في عام 2024، فقد احتلت المرتبة الرابعة، وهو ما يظل إنجازًا كبيرًا.

هذا الإقبال الكبير على الذهب انعكس على نسبة المعدن الأصفر من إجمالي احتياطيات الصين الأجنبية، والتي ارتفعت بشكل سريع.

فقبل جائحة كوفيد-19، كانت نسبة الذهب أقل من 3%، لكنها تجاوزت 5.9% بحلول يناير 2025.

التخلي عن الدولار: استراتيجية “إزالة الدولرة

في الوقت الذي تتجه فيه الصين نحو الذهب، فإنها تبتعد عن سندات الخزانة الأمريكية.

فبعد أن كانت أكبر حائز أجنبي للديون الأمريكية، قلصت الصين حيازتها بوتيرة متسارعة.

وتشير البيانات إلى أن حيازة الصين من سندات الخزانة الأمريكية قد انخفضت إلى ما دون تريليون دولار منذ أبريل 2022.

يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها جزء من استراتيجية أوسع تُعرف بـ “إزالة الدولرة”، والتي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة والاستثمار والاحتياطيات المالية.

فالهيمنة الأمريكية على النظام المالي العالمي تمنح واشنطن نفوذًا كبيرًا، بما في ذلك القدرة على فرض عقوبات اقتصادية،

وهو ما تسعى بكين إلى التحوط منه.

تأثيرات عالمية ومحلية

على الصعيد العالمي:

  • أسعار الذهب: يؤدي الشراء الصيني النشط للذهب إلى دعم أسعاره العالمية واستقرارها، خاصة في أوقات الاضطرابات في الأسواق.

ويتوقع محللون أن استمرار هذا الاتجاه قد يدفع أسعار الذهب إلى مستويات أعلى على المدى المتوسط والطويل.

  • الدولار الأمريكي: تنويع الصين وغيرها من الأسواق الناشئة لاحتياطياتها بعيدًا عن الأصول المقومة بالدولار قد يضعف الطلب على الديون الأمريكية، مما قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض للحكومة الأمريكية.

وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى تراجع تدريجي لهيمنة الدولار في التمويل العالمي.

على الصعيد المحلي الصيني:

  • الأمن الاقتصادي: يمثل تكديس الذهب رغبة لدى الصين في تقليل الاعتماد على الدولار والأدوات المالية الغربية الأخرى.

فالصين تسعى لحماية اقتصادها من الاضطرابات الاقتصادية والمالية المحتملة، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية.

  • مقارنات دولية: عند مقارنة نسبة الذهب في احتياطيات الصين مع الاقتصادات المتقدمة الأخرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، نجد أن هذه الدول تحتفظ بنسب أعلى بكثير من الذهب.

فعلى سبيل المثال، يشكل الذهب أكثر من 70% من إجمالي احتياطيات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

وهذا يشير إلى أن الصين قد تواصل زيادة حيازتها من الذهب لتقترب من هذه المستويات.

هل الأرقام الرسمية تخفي الحقيقة ؟

تشير بعض التقارير والتحليلات إلى أن احتياطيات الصين الفعلية من الذهب قد تكون أعلى بكثير من الأرقام المعلنة رسميًا.

ويعتقد محللون أن الصين تقوم بتجميع الذهب بشكل استراتيجي من خلال بنوك مملوكة للدولة وقنوات أخرى غير معلنة لتجنب إثارة قلق الأسواق.

ورغم أن هذه التقارير لا تزال موضع نقاش، إلا أنها تضفي بعدًا آخر على استراتيجية الصين الطموحة.

في الختام، يُعد تراكم الصين الكبير لاحتياطيات الذهب استراتيجية متعددة الأوجه تستند إلى البراغماتية الاقتصادية والحذر الجيوسياسي ورؤية طويلة الأمد للأمن القومي.

وهذه الاستراتيجية لا تعيد تشكيل المشهد المالي الصيني فحسب، بل لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي ومستقبل النظام المالي الدولي.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى