“جامايكا”: أول دولة تتحرر من صندوق النقد.. ما الذي ينتظرها؟

في خطوة تاريخية، أعلنت جامايكا عن انتهاء خمسين عامًا من الاعتماد على صندوق النقد الدولي (IMF)، مما جعل العالم يتطلع إلى ما سيحدث بعد ذلك، لاسيما أن جامايكا أصبحت أول دولة في العالم تتحرر من صندوق النقد.
ولا يقتصر الأمر على جامايكا وحدها، إذ أصبحت نموذجا يحتذي به؛ ويراقب عن كثب من قبل العديد من الدول التي تخوض تجارب مشابهة مع صندوق النقد الدولي، مثل مصر والأرجنتين، واللتين باتتا على مشارف التحرر من تلك البرامج الصارمة.
في هذه السطور، سنستعرض هذا الإنجاز المالي الكبير للجزيرة الكاريبية، لحظة تغلق فيها عقودًا من الإشراف الدولي على اقتصادها.
في البداية سنعود إلى عام 2013 عندما وصل الدين العام إلى مستويات كارثية، مما دفع البلاد للدخول في برنامج آخر مع الصندوق.
كما سنستعرض التدابير التقشفية الصارمة التي فرضت على الشعب، معاناة الأسر العادية، والتحول المدهش الذي أدى إلى 20 ربعًا متتاليًا من النمو الاقتصادي.
واليوم، في عام 2025، تقف جامايكا على أعتاب سداد كامل لدينها. لكن هذه الحرية المالية تمثل البداية فقط. لذا سنكشف الفرص، التحديات، والمخاطر التي ستواجهها في هذه الحقبة الجديدة من السيادة المالية.
نهاية حقبة من الإشراف المالي الدولي لصندوق النقد
تشهد جامايكا في عام 2025 إغلاقا لأحد أكثر الفصول دراماتيكية في تاريخها الحديث،كأول دولة في العالم تتحرر من صندق النقد الدولي .
لعقود طويلة، كان اقتصاد هذه الدولة الصغيرة ولكن المؤثرة في منطقة البحر الكاريبي تحت إشراف صندوق النقد الدولي، الذي كان بمثابة طوق نجاة في أوقات الأزمات، لكنه في الوقت نفسه فرض قيودًا شديدة على سياسات الدولة الاقتصادية.
فقد ساعد صندوق النقد الدولي جامايكا على تجنب الانهيار المالي في أوقات الأزمات. لكن البرامج التي قدمها جاءت مع شروط قاسية غيرت بشكل جذري حياة ملايين الجامايكيين.
واليوم، بعد خمسين عامًا من الاعتماد على الصندوق، تقف جامايكا على وشك أن تتحرر بالكامل من تلك القيود.
ولإدراك حجم هذا الإنجاز، يجب أن نعود إلى البداية، إلى تلك السنوات الصعبة التي لم يكن لدى جامايكا فيها خيار سوى اللجوء إلى صندوق النقد.
لماذا تلجأ الدول للاقتراض من صندوق النقد؟
تصوروا اقتصاد دولة يغرق تحت جبل من الديون التي كانت تبدو غير قابلة للسداد.
مع بداية العقد الثاني من الألفية، كان هذا هو واقع جامايكا. حيث وصل الاقتراض الحكومي إلى مستويات غير قابلة للسيطرة، وفقد المستثمرون ثقتهم في الاقتصاد، وأغلقت الأسواق العالمية أبوابها أمامها.
وبحلول عام 2013، كان معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي قد وصل إلى نحو 146%.
هذا يعني أن الدولة كانت مدانة تقريبًا بمقدار يزيد مرة ونصف عن قيمة ما تنتجه في عام كامل.
في ذلك العام، أبرمت جامايكا اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي على برنامج “التسهيلات الموسعة” (EFF) الذي منحها حق الوصول إلى أكثر من 615 مليون حقوق سحب خاصة (SDR)، أي ما يعادل حوالي 932 مليون دولار أمريكي.
لكن، كما هو معروف عن صندوق النقد، لم يكن هذا المال هبة. بل كان مشروطًا بتطبيق إصلاحات اقتصادية صارمة.
الإصلاحات الصعبة والثمار المتأخرة
لتأمين الأموال، كان على الحكومة الالتزام بإصلاحات جذرية تشمل الحفاظ على فائض أولي مرتفع، إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية، إصلاح النظام الضريبي، وتجميد أجور القطاع العام.
هذه التدابير كانت غير شعبية بالمرة، ودفعت الكثير من الأسر الجامايكية إلى مواجهة صعوبات كبيرة في ظل تجميد الأجور، زيادة الضرائب، وتقليص الإنفاق الحكومي.
لكن لم يكن هناك خيار آخر. من دون دعم صندوق النقد، كانت البلاد في خطر الانهيار المالي التام.
ولكن شيئًا فشيئًا، بدأت هذه الإصلاحات تؤتي ثمارها. فقد نجحت الحكومة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وفق الشاهادات التي كان يصدرها صندوق النقد في ذلك الوقت.
وفي 2016، انتقلت جامايكا إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد تحت ما يسمى “برنامج التسهيلات الائتمانية الاحترازية” بقيمة 1.6 مليار دولار أمريكي،
ولكن لم يتم سحب أي أموال من هذا البرنامج. كان بمثابة “وثيقة تأمين” في حال حدوث صدمات خارجية.
20 ربعًا متتاليًا من النمو
بين عامي 2015 و2019، سجلت جامايكا 20 ربعًا متتاليًا من النمو الاقتصادي. هذا يعني خمس سنوات كاملة من التوسع المتواصل، وهي أطول فترة نمو اقتصادي منذ بدء البلاد في تتبع هذه البيانات في عام 1997. ورغم أن الإصلاحات كانت مؤلمة، إلا أن الحكومة حافظت على مسارها.
لكن، كيف عملت قروض صندوق النقد؟ عندما تقترض دولة من صندوق النقد، فإنها لا تحصل على شروط مرنة كما هو الحال في القروض طويلة الأجل. بدلاً من ذلك، تبدأ سداد القروض بعد 3 إلى 5 سنوات فقط من صرف الأموال. وهذا يعني أن جامايكا بدأت تسدد الديون بينما كانت لا تزال تكافح.
في السنوات الأولى بعد 2013، كانت الحكومة تدفع مئات الملايين سنويًا فقط للحفاظ على وضعها المالي، ولم يكن هناك مجال للتأخر عن السداد.
التحرر المالي: بداية جديدة أم تحدي جديد؟
وبحلول عام 2025، وبعد أكثر من عقد من الكفاح والتضحيات، أصبحت النتيجة مذهلة. بحسب سجلات صندوق النقد الدولي في نهاية يونيو 2025، كان دين جامايكا قد انخفض إلى 21.24 مليون حقوق سحب خاصة، أي حوالي 28 مليون دولار أمريكي.
مقارنة بالقروض السابقة التي تجاوزت مليار دولار، تبدو هذه المبالغ كأنها مجرد حصاة صغيرة.
لكن هذا ليس مجرد تقدم؛ إنه انتصار تاريخي. قريبًا، ستصبح جامايكا خالية من ديون صندوق النقد الدولي، مما يفتح الباب لعهد جديد من السيادة المالية.
ولكن، هل يعني هذا أن البلاد ستصرف ببذخ الآن؟ بالطبع لا. فالدروس المستفادة من العقود الماضية واضحة. يجب أن يظل الانضباط المالي هو الأساس.
الفرص والتحديات في العصر الجديد
مع التحرر من قيود صندوق النقد الدولي، ستتمكن جامايكا من تحديد أولوياتها المالية بناءً على احتياجاتها الوطنية.
وستتمكن من توجيه مزيد من الميزانية إلى قطاعات مثل التعليم، الصحة، والضمان الاجتماعي، مما قد يحسن حياة المواطنين.
لكن السؤال الكبير الآن هو: كيف ستواصل الحكومة الحفاظ على الانضباط المالي دون مراقبة خارجية؟
بالطبع، هناك تحديات لا يمكن تجاهلها، مثل القدرة على الصمود أمام الصدمات الاقتصادية العالمية، من تقلبات أسعار الطاقة إلى النزاعات الجيوسياسية التي قد تؤثر على واردات الغذاء أو السياحة.
لكن، الآن، جامايكا بحاجة إلى بناء قدرتها على مواجهة هذه الصدمات بنفسها.
النظرة المستقبلية: بداية عهد جديد
مع حلول عام 2025، تقف جامايكا على مفترق طرق. من جانب، تحمل هذه اللحظة رمزًا قويًا للسيادة والاستقلالية.
لكن من الجانب الآخر، فإن هذه الحرية تأتي مع مسؤوليات جديدة.
سيكون نجاحها في المستقبل مرتبطًا بالقرارات التي ستتخذها الحكومة في السنوات المقبلة، وخاصة فيما يتعلق بالاستثمار في القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والمناخ.
الحرية المالية تعني فرصة جديدة. لكن التحدي الآن هو الاستفادة من هذه الفرصة بحكمة، لضمان أن تكون التضحيات التي قدمها الشعب الجامايكي على مدار العقد الماضي الأساس لبناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة.
فهل ستنجح جامايكا كأول دولة في العالم تتحرر من صندق النقد، أم أن قروض الصندوق ستظل شبحا يلاحقها في المستقبل، ويضطرها دائما للجوء إلى الاقتراض لتسديد فوائد الديون التي لا تزال تمثل 72% من ناتجها الإجمالي.