كتاب “العالم إرادة وتمثل”.. ملخص فلسفة شوبنهاور التشاؤمية

كتاب “العالم إرادة وتمثل” للفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور (1788-1860 )يُعد حجر الزاوية في فلسفته التشاؤمية.
يرى شوبنهاور أن الحياة برمّتها هي ألم ومعاناة لا مفر منها، وأن الوجود نفسه مجرد وادٍ من الشقاء، مما يجعله يعتقد أن عدم الوجود كان أفضل لنا.
هذا الملخص يتناول الكتاب ذاته، مستعرضًا ملابسات نشره وأقسامه الرئيسية، بالإضافة إلى شرح عنوانه الفلسفي العميق، وبعض من أهم أفكاره.
نبذة عن الكاتب أرتور شوبنهاور
أرتور شوبنهاور هو فيلسوف ألماني ولد في دانزيغ (غدانسك حاليًا ببولندا) عام 1788.
يُعتبر من أهم الفلاسفة في القرن التاسع عشر، وأسس لفلسفة التشاؤم التي أثرت لاحقًا على العديد من المفكرين والفنانين، بمن فيهم نيتشه وفاجنر.
تأثر شوبنهاور بشكل كبير بفلسفة كانط، وفلسفات الشرق الأقصى (خاصة الهندوسية والبوذية)، بالإضافة إلى فكر أفلاطون وسبينوزا. كانت حياته تتميز بالعزلة والانكباب على التأمل الفلسفي، بعيدًا عن الحياة الأكاديمية الصاخبة.
ملابسات طرح كتاب “العالم إرادة وتمثل”
شهد عام 1814 انتقال شوبنهاور، الذي كان في أواخر العشرينات من عمره، إلى مدينة دريسدن.
أمضى فيها أربع سنوات كاملة، تفرغ خلالها للتأمل الفلسفي العميق وبلورة أفكاره وتنظيمها، مما أدى إلى تأليفه كتابه الأهم “العالم إرادة وتمثل”.
صدر الكتاب لأول مرة في عام 1819. كان شوبنهاور يؤمن بشدة بأنه قد ألف عملًا لا مثيل له، كتابًا استطاع من خلاله الإجابة على أهم الإشكاليات الفلسفية التاريخية، وتفسير جوهر العالم والحياة والوجود بطريقة مبتكرة غير مسبوقة.
كان يتوقع إقبالًا استثنائيًا عليه، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن.
فشل الكتاب فشلاً ذريعًا بعد نشره.
لم يلتفت إليه أحد، لا من القراء ولا من النقاد ولا المهتمين.
تخيلوا أن الكتاب لم يبع منه سوى حوالي 100 نسخة خلال 15 عامًا! لدرجة أن دار النشر اضطرت لبيع النسخ المتبقية المتكدسة في المستودعات كورق يستخدم في لف البضائع والخضراوات في الأسواق.
أصابت هذه التجربة شوبنهاور بصدمة، لكنها لم تصبه باليأس أو الإحباط.
وعبر عن الأمر بعبارة رائعة: “كتابٌ مثل هذا هو أشبه بمرآة، إذا نظر فيها حمار فمؤكد لن يرى ملاكًا”.
كان يؤمن بأن العبقري غالبًا ما يكون غريبًا ومنبوذًا من معاصريه لأنه يكتب للأجيال القادمة.
ورغم هذا الفشل المبدئي، بقي “العالم إرادة وتمثل” محور حياة شوبنهاور الفكرية، حيث كرس جهوده لتطويره وتنقيحه وإثراء محتواه، حتى تمكن من نشره بالصورة التي هو عليها الآن في عام 1844.
فلسفة شوبنهاور في الكتابة
من حيث الشكل، يتميز كتاب شوبنهاور بسهولته مقارنة بالكتب الفلسفية الكلاسيكية الأخرى، خاصة الأعمال الألمانية التي اشتهرت بأسلوبها المعقد، الغارق في التجريد، واستخدام المصطلحات المبتكرة الصعبة، على غرار أعمال كانط وفخته وهيغل.
شوبنهاور لم يكتب بأسلوب سهل لعدم قدرته على كتابة عمل معقد، بل لأنه كان يمتلك البراعة الكافية لذلك.
لكنه اختار أسلوبًا واضحًا ومفهومًا لسببين رئيسيين: أولًا، لأنه لا يحب الغموض والابهام، وثانيًا، لأنه أراد أن يكتب للناس العادية، لجمهرة العامة وعشاق الفلسفة من غير المتخصصين، بخلاف كانط وهيغل اللذين كتبا أعمالًا موجهة بالدرجة الأولى للفلاسفة والأكاديميين. كان شوبنهاور يهدف إلى أن يقرأ القارئ العادي كتابه ويستطيع فهم مضمونه وأفكاره القوية.
أقسام كتاب “العالم إرادة وتمثل”
ينقسم كتاب “العالم إرادة وتمثل” إلى أربعة أقسام مختلفة، ولكل قسم موضوع وغرض خاص به:
- القسم الأول: المعرفة وطبيعتها وحدودها: يبحث شوبنهاور في هذا الجزء في طبيعة المعرفة الإنسانية وحدودها، وكيف ندرك العالم من حولنا.
- القسم الثاني: جوهر الوجود وماهية العالم: يتناول هذا القسم الجانب الميتافيزيقي، ويبحث عن الحقيقة الكامنة وراء الظواهر، أي جوهر العالم والأشياء.
- القسم الثالث: الفن وعلم الجمال: يخصص شوبنهاور هذا الجزء لمناقشة دور الفن والجمال، وكيف يمكن أن يقدم الفن خلاصًا مؤقتًا من قيد الإرادة الكونية.
- القسم الرابع: علم الأخلاق: يتناول هذا القسم الفلسفة الأخلاقية لشوبنهاور، ويركز على مبدأ الشفقة والمعاناة المشتركة.
تحليل عنوان الكتاب: “العالم إرادة وتمثل”
يختصر عنوان الكتاب كل فلسفة شوبنهاور حول المعرفة وطبيعة العالم والوجود.
يفصح العنوان عن فكرة وجود عالمين، أو بالأحرى، عالم واحد بمظهرين:
العالم كتمثل (أو تصور/فكرة): يشير إلى العالم كما ندركه نحن من خلال تصوراتنا الذهنية.
نحن لا ندرك العالم والأشياء إلا من خلال أفكار ذهنية، فهي صورتنا الذهنية عن العالم، وليست العالم كما هو في حقيقته.
تعتمد هذه التصورات على القوالب العقلية القبلية الموجودة في أذهاننا، مثل قوالب المكان والزمان والسببية، التي تعمل “كنظارات” يرى العقل العالم من خلالها.
نحن ندرك فقط ظاهر الأشياء الذي تستقبله الحواس، وبالتالي لا ندرك إلا الظاهر من العالم.
العالم كإرادة: هو العالم في حقيقته الذاتية، جوهر العالم الذي لا يخضع لإدراكنا الحسي أو لمعالجتنا الذهنية؛ لأنه خارج شروط المكان والزمان والسببية.
هذه “الإرادة” عند شوبنهاور ليست إرادة فردية، بل هي الإرادة الكلية للطبيعة؛ طاقة كونية نشطة، جوهر كامن في صميم كل ما هو موجود، تتحكم بالعالم وكائناته.
كل الأشياء والموجودات والكائنات ليست سوى مظاهر خارجية لهذه الإرادة الكلية.
باختصار، العالم كإرادة هو العالم كوجود فعلي وواقعي، بينما العالم كتمثل هو العالم كفكرة ذهنية موجودة في العقل.
هذه الرؤية تقترب من التفسير العلمي الحديث الذي يخبرنا أن تصوراتنا عن العالم مجرد عمليات عقلية وصور ذهنية، وقد لا تتطابق مع حقيقة الأشياء في ذاتها.
الإرادة الكلية للحياة ونظرة شوبنهاور التشاؤمية
بعد شرح عنوان الكتاب، ينتقل شوبنهاور للحديث عن الإرادة الكلية للحياة.
هذه الإرادة لا هم لها إلا الاستمرار والبقاء والانتقال عبر الأجيال، ولذلك هي تعمل للحفاظ على الأنواع وليس على الأفراد، فالنوع باقٍ بينما الفرد زائل.
قيمة الفرد في هذه العملية تكمن في كونه مجرد ناقل للحياة لجيل جديد من خلال التناسل والتكاثر.
الموت هو العدو الأزلي لإرادة الحياة، ونتيجة لهذا الصراع المحتدم، تغذي إرادة الحياة مجموعة من الغرائز والرغبات عند الكائن الحي، مثل غريزة البقاء والحب والجنس، لضمان استمرارية النوع.
فنحن ككائنات حية لسنا سوى “أدوات وبيادق تافهة” في خضم هذا الصراع، الذي نتجرع بسببه صنوف العذابات والمعاناة والألم.
لهذا السبب، نظر شوبنهاور إلى العالم بنظرة تشاؤمية قاتمة.
فالعالم في نظره هو ساحة صراع مفتوحة بين الحياة والموت، مرتع للشر والبؤس والمعاناة والألم.
الألم هو السمة الأصيلة لكل وجود حي، بينما السعادة مجرد استثناء، وهم ناجم عن خفوت أو تقنين في حدة الألم لا أكثر ولا أقل.
الحالة التي يخفت فيها الألم مؤقتًا هي الوهم الذي نسميه “سعادة”.
الفن والأخلاق في فلسفة شوبنهاور
يُعطي شوبنهاور للفنون بصفة عامة، وللموسيقى بصفة خاصة، أهمية ورفعة لم يسبقه إليها فيلسوف.
اعتبر الموسيقى خلاصًا للإنسان من قيد الإرادة، بوصفها نشاطًا خالصًا لا تؤثر فيه الإرادة.
باستطاعة الموسيقى أن تمكننا من الهروب من واقعنا الصعب والمؤلم، ولو وقتيًا، إلى عالم أجمل وأرحب.
لذلك، كان شوبنهاور معشوق كبار عباقرة الموسيقى في التاريخ، مثل فاغنر.
أما فيما يخص الأخلاق، يمكن اختزال فلسفة شوبنهاور الأخلاقية في قاعدة بسيطة: “عندما تؤذي شخصًا آخر أو حتى كائنًا حيًا آخر، فإنك تؤذي نفسك بشكل أو بآخر”. ذلك لأننا جميعًا كائنات نتشارك نفس المعاناة والألم والشقاء؛ كل فرد منا يمثل جزءًا من كلٍّ أكبر. هذه النظرة الشفقة على حال الكائن الإنساني هي ما لم يعجب نيتشه لاحقًا، رغم تأثره الكبير بشوبنهاور.